mhiptv.org |
|
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
24-04-2020, 03:10 PM | #1 |
المشــــــرف العـــــام تاريخ التسجيل: Dec 2008
المشاركات: 16,667
|
عودوا إلى خير الهدي
بسم الله الرحمن الرحيم عودوا إلى خير الهدي الحمد لله وكفى، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، لاسيما عبده المصطفى، وآله المستكمِلين الشَّرفا. أما بعد: فببين يديك – أخي المسلم – تنبيهات وفوائد تمسُّ الحاجة إلى بيانها، تتعلَّق بمخالفات للسنَّة تتكرَّر في شهر رمضان المعظَّم بصورة موسمية، والمؤلم في هذا الأمر أنها تعدَّت العوام، وتسرَّبت إلى طلبة العلم من أهل السنَّة، مع أنهم الذين تنعقد عليهم الآمال أن يحرسوا السنَّة، ويحملوها إلى الأمَّة نقيَّةً خاليةً من أي شائبة!! وقد جمعتُ شواردها، وألَّفْتُ بين متفرِّقها من كلام أهل العلم والحديث، في القديم والحديث، سائلاً الله - عزَّ وجلَّ - أن ينفع بها مَنْ تبلغه، وأن يردَّنا إلى هدي مَنْ هديه خير الهدي - صلَّى الله عليه وسَلَّم – ردًّا جميلاً، وأن يتمَّ علينا المنَّة، بالوفاة على الإسلام والسنَّة، والحمد لله رب العالمين. المطلب الأول استحباب البُكاء عند تلاوة القرآن المجيد قال الله - تعالى - في سِيَاق الثَّنَاء على الأنبياء - عليهم السَّلام -: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58].وعن عبدالأعلى التَّيمي، قال: "إن مَن أوتي منَ العلم ما لم يُبْكيه، لَخَلِيقٌ أن لا يكونَ أوتيَ علمًا ينفعه؛ لأنَّ الله نعتَ العلماءَ فقال: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 107 - 109][1]. ويُرْوَى عنِ ابن عباس - رضيَ الله عنهما - قال: "إذا قَرَأْتُم سجدة {سُبْحَانَ}[2]، فلا تعجلوا بالسُّجود حتى تبكوا، فإن لَمْ تبكِ عينُ أحدكم، فَلْيَبْكِ قلبُه"[3]. وقال - تعالى - مُنكِرًا على المُشْركينَ: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ}[4] [النجم: 59 - 61]. وعن عبدالله بن الشِّخِّير - رضيَ الله عنه - قال: "أتيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يُصَلِّي، وفي صدره أزيز كأزيز المِرْجل منَ البُكاء"[5]. وعن عطاء، قال: دخلتُ أنا وعبيد بن عمير على عائشة - رضي الله عنها -: فقال عبيد بن عمير: حَدِّثينا بأعجب شيءٍ رأيتيه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَبَكَتْ، وقالتْ: قام ليلة منَ الليالي، فقال: ((يا عائشة، ذريني أتعبَّد لِرَبي))، قالتْ: قلت: واللهِ إنِّي لأُحِب قربكَ، وأحب ما يَسُركَ، قالتْ: فقام فَتَطَهَّر، ثم قام يُصَلِّي، فلم يزل يبكي حتى بَلَّ حِجْره، ثم بَكَى، فلم يزل يَبْكي حتى بَلَّ الأرض، وجاء بلال يؤذنه بالصَّلاة، فلما رآه يَبْكي، قال: يا رسول الله، تَبْكي، وقد غفر الله لكَ ما تَقَدَّمَ مِن ذنبكَ، وما تَأَخَّر؟! قال: ((أفلا أكون عبدًا شكورًا، لقد نزلتِ الليلة آيات، وَيْل لِمَن قرأها، وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فيها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}[6] [آل عمران: 190]. وعن أبي هُريرة - رضيَ الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يَلِج النار رَجَلٌ بَكَى مِن خشيةِ الله، حتى يعود اللبن في الضَّرع، ولا يجتمع غُبار في سبيل الله ودخان جَهَنم))[7]. وعنِ ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((عينان لا تمسهما [8] النار: عين بَكَت مِن خشية الله، وعين باتَتْ تحرُس في سبيل الله))[9]. وعن أبي أُمَامة - رضي الله عنه - عنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ليس شيء أحب إلى الله مِن قَطْرَتَيْن وأَثَرين: قطرة مِن دموع في خشيةِ الله، وقطرة دمٍ، تُهْرَاق في سبيل الله، وأمَّا الأَثَرَان: فأَثَر في سبيل الله، وأَثَر في فريضةٍ مِن فرائض الله))[10]. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عنِ النَّبي - صَلَّى الله عليه وسلم - قال: ((سبعةٌ يظِلُّهم الله في ظِلِّه، يوم لا ظِلّ إلاَّ ظِله: الإمام العادل، وشابٌّ نشأ في عبادة ربه، ورجل قَلْبه مُعَلَّق في المساجد، ورجلان تحابَّا في الله؛ اجتمعا عليه، وتَفَرَّقا عليه، ورجل طَلَبَتْه امرأةٌ ذات مَنْصب وجمال، فقال: إنِّي أخاف الله، ورَجُل تَصَدَّقَ أخفى، حتى لا تعلم شِماله ما تُنْفق يَمِينه، ورجلٌ ذَكَر الله خَاليًا، فَفَاضَتْ عَيْنَاه)) [11]. وعن عبدالله بن عبيدة، أنَّ نفرًا اجتمعوا في حجرة صفية بنت حُيَيّ، زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكروا الله، وتلوا القرآن، وسجدوا، فنادتهم صفية: هذا السجود وتلاوة القرآن، فأين البكاء[12]؟! ولَمَّا اشْتَدَّ مرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مُرُوا أبا بكر، فَلْيُصَل بالناس))، قالت عائشة - رضي الله عنها -: ((إنَّ أبا بكر رجل رقيق، إذا قرأ القرآن لا يملك دَمْعَهُ))، وفي رواية: ((إنَّه رجلٌ أسيف[13]، إذا قام مقامكَ لَمْ يستطِعْ أن يصليَ بالناس، ولم يسمع الناس منَ البُكاء))[14] الحديث. وفي خبر ابن الدَّغِنَة: "أنَّ أبا بكر - رضي الله عنه - ابْتَنَى مسجدًا بِفِناء دار ابن الدَّغِنَة، وكان يُصَلِّي فيه، ويقرأ القرآن، فيتقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم، وهم يعجبون منه، وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلاً بَكَّاءً، لا يملك عَيْنيه إذا قرأ القرآن"، انتهى محل الشاهد منه[15]. وقال عَلْقَمة بن وقاص: "صَلَّيت خلف عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقرأ سورة يوسف، فكان إذا أتى على ذكر يوسف، سَمِعْتُ نَشِيجَهُ مِن وراء الصُّفوف"[16]. وقال القاسم بن محمد: "كنتُ إذا غدوتُ أبدأ بِبَيْت عائشة - رضي الله عنها - فأسلم عليها، فغدوتُ يومًا، فإذا هي قائمة تُسَبِّح[17]، وتقرأ: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور: 27]، وتدعو، وتبكي، وتُرَددها، فقمتُ حتى مللت القيام، فذهبت إلى السوق لِحَاجَتي، ثم رجعتُ، فإذا هي قائمة تُصَلِّي، وتبكي"[18]. وعن مسروق، قال: قال رجل مِن أهل مكة: هذا مقام تَميم الداري، لقد رأيته ذات ليلة حتى أصبح، أو قرب أن يصبحَ: يقرأ آية مِن كتاب الله، ويركع، ويسجد، ويبكي: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}[19] [الجاثية: 21]. وقال بشير: "بِتُّ عند الرَّبيع بن خثيم ذات ليلة، فقام يُصَلِّي، فمَرَّ بهذه الآية، فمكث ليلته حتى أصبحَ، وما جاوز هذه الآية إلى غيرها بِبُكاء شديد" [20]. وقال إبراهيم بن الأشعث: كثيرًا ما رأيتُ الفُضَيل بن عياض يُرَدِّد مِن أولِ اللَّيل إلى آخره هذه الآية ونظيرها، ثم يقول: "ليتَ شِعري، مِن أيِّ الفَرِيقينِ أنتَ؟!"[21]. قال القرطبي - رحمه الله -: "وكانتْ هذه الآية تسمَّى: مَبْكَاة العابدين؛ لأنها محكمة" [22]. وعنِ الحسن، قال: "لم يزلِ الناس على ذلك، يبكون عند الذِّكر، وقراءة القرآن" [23]. ورَوَى خالد بن معدان، عَنْ كعب الأحبار، قال: "لأن أبكي مِن خشية الله أحب إليَّ مِن أن أَتَصَدَّق بِوَزْني ذهبًا" [24]. وعن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: "ينبغِي لِحَامِل القرآن أن يعرفَ بِلَيْله، إذا الناس نائِمون، وبِنَهاره إذا الناس يفطرون، وبِحُزنه إذا الناس يَفْرحون، وبِبُكائه إذا الناس يضحكونَ، وبِصَمْته إذا الناس يخلطون، وبِخُشوعه إذا الناس يَخْتالون، وينبغي لحامِل القرآن أن يكونَ باكيًا محزونًا، حكيمًا حليمًا، عليمًا سِكِّيتًا، ولا ينبغي لِحَامل القرآن أن يكونَ جافيًا، ولا غافلاً، ولا صَخَّابًا، ولا صَيَّاحًا، ولا حديدًا" [25]. وعنِ الحسن، قال: "إن كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر به جاره، وإن كان الرَّجل لقد فَقِه الفِقْه الكثير وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل ليُصَلِّي الصلاة الطويلة في بيتِه وعنده الزَّوْر[26]، وما يشعرون به، ولقد أدركنا أقوامًا ما كان على ظَهْر الأرضِ مِن عمل يقدرون على أن يعملوه في سرٍّ فيكون علانية أبدًا، ولقد كان المسلمون يجتهدونَ في الدُّعاء، وما يسمع لهم صوت، إن كان إلا همسًا بينهم وبين ربهم - عز وجل - ذلكَ أنَّ الله - تعالى، وعز وجل - يقول: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55]، وذلك أنَّ الله - تعالى - ذكر عبدًا صالحَا، ورضي قوله، فقال: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم: 3][27]. وكان حسان بن أبي سنان يحضر مجلس مالِك بن دينار، فإذا تَكَلَّم مالك بكى حسان، حتى يبل ما بين يديه، لا يسمع له صوت[28]. وعنِ القاسم بن محمد، قال: كنَّا نُسافِر مع ابن المبارك، فكثيرًا ما كان يخطر بِبَالي، فأقول في نفسي: "بأيِّ شيءٍ فضل هذا الرجل علينا حتى اشتهر في الناس هذه الشُّهْرة، إن كان يصلِّي إنا لنُصَلي، وإن كان يصوم إنا لنصوم، وإن كان يغزو فإنا لنغزو، وإن كان يحج إنَّا لنحج؟! قال: فكنَّا في بعض مسيرنا في طريق الشام ليلة، نتعشى في بيتٍ، إذ طفئ السراج، فقام بَعْضُنا فأخذ السراج، وخرج يستصبح، فمكث هنيهة، ثم جاء بالسِّراج، فنظرت إلى وجه ابن المبارك ولحيته قدِ ابْتلت منَ الدموع، فقلت في نفسي: "بِهَذه الخشية فُضِّل هذا الرجل علينا، ولَعَلَّهُ حين فقد السراج، فصار إلى ظلمة، ذكر القيامة"[29]. وعن عاصم، قال: كان أبو وائل إذا صَلَّى في بيتِه نشج[30] نشيجًا، ولو جعلت له الدنيا على أن يفعله وأحد يراه ما فعله، وقد كان أيوب السَّخْتِيَانِي إذا غلبه البُكاء قام[31]. وقال خادم الإمام محمد بن أسلم الطوسي: "سمعته يَحْلف كذا وكذا مرة، أن لو قدرت أن أَتَطَوَّعَ حيث لا يراني ملكاي لَفَعَلْتُ؛ ولكن لا أستطيع ذلك" [32]. وكان إبراهيم التيمي يقول: "المخلص مَن يكتم حسناته، كما يكتم سيئاته"[33]، وقال الحسن البصري: "إن كان الرَّجل ليجلس المجلس، فتجيئه عَبْرته فيردها، فإذا خشي أن تسبقه قام" [34]. قال القرطبي - رحمه الله تعالى - عند تفسير قوله - تعالى -: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 83]. "وهذه أحوال العلماء يبكون ولا يصعقون، ويسألون ولا يصيحون، ويتحازنون ولا يتماوتون، كما قال - تعالى -: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23]، وقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2][35]. وقال في تفسير آية [الأنفال] هذه: "وصف الله - تعالى - المؤمنينَ في هذه الآية بِالخَوْف والوَجَل عند ذِكْره، وذلك لِقُوة إيمانِهم ومراعاتهم لِرَبهم، وكأنهم بين يديه، ونظير هذه الآية {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحج: 34، 35]، وقال: {وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} [الرعد: 28]، فهذا يرجع إلى كمال المَعْرِفة، وثِقة القلب، والوَجَل: الفزع مِن عذاب الله، فلا تَنَاقُض. وقد جمع الله بين المَعْنَيَيْنِ في قوله: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23]؛ أي: تسكن نفوسهم من حيثُ اليقينُ إلى الله، وإن كانوا يخافون الله، فهذه حالة العارفينَ بالله، الخائفينَ مِن سَطْوَتِه وعقوبته، لا كما يفعله جُهَّال العَوَام، والمُبْتَدِعة الطَّغام[36]، منَ الزعيق والزَّئير، ومنَ النهاق الذي يشبه نهاق الحَمِير. فيقال لِمَن تَعَاطَى ذلك، وزعم أنَّ ذلكَ وَجْدٌ وخُشُوع: لَمْ تبلغ أن تساوي حال الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - ولا حال أصحابه - رضي الله عنهم - في المعرفة بالله، والخوف منه، والتَّعظيم لِجَلاله، ومع ذلك فكانتْ حالهم عند المَوَاعظ الفهم عنِ الله، والبُكاء خوفًا منَ الله - تعالى - ولذلك وَصَف الله أحوال أهْلِ المعرفة عند سَمَاع ذِكْرِه، وتِلاوة كِتابِه، فقال: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 83]، فهذا وصف حالهم، وحكاية مَقَالهم، ومَن لم يَكُن كذلك فلَيْس على هَدْيهم، ولا على طَرِيقتهم، فمَن كان مُسْتَنًّا فَلْيَسْتَنّ، ومَن تَعَاطَى أحوال المجانين والجنون، فهو مِن أَخسِّهم حالاً، والجنون فُنُون. رَوَى مسلم عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنَّ الناس سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أحْفَوه[37] في المسألة، فخرج ذات يوم فصعد المنبر، فقال: ((سَلُوني، لا تسألوني عن شيءٍ إلا بَيّنْته لكم، ما دمت في مقامي هذا))، فلَمَّا سمع ذلك القوم أرموا[38]، ورهبوا أن يكون بين يَدَيْ أمْرٍ قد حضر، قال أنس: فجعلت ألْتَفِتُ يمينًا وشمالاً، فإذا كل إنسان لافٌّ رأسه في ثَوْبِه يَبْكي، وذكر الحديث. ورَوَى التِّرمذي وصَحَّحه، عنِ العِرْباض بن سارية - رضي الله عنه - قال: "وَعَظَنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظةً بَلِيغةً، ذرفَتْ منها العيون، وَوَجِلَتْ منها القلوب"، الحديث، ولم يقل: زعقنا، ولا رقصنا، ولا زفنا[39]، ولا قمنا"[40]. وعن جُندُب - رضيَ الله عنه - قال: قال النَّبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من سَمَّع، سَمَّع الله به، ومَن يُرائِي، يُرَائِي الله به)) [41]. وعن عبدالله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((مَن سَمَّع الناسَ بِعَمله، سَمَّع الله مسامع خلقه، وصَغَّره، وحَقَّره)) [42]. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((رُبَّ صائم ليس له مِن صيامِه إلاَّ الجوع، ورُبَّ قائم ليس له مِن قيامه إلاَّ السَّهَر)) [43]. قال ابن الجَوْزي - رحمه الله تعالى -: "وقد لَبَّس - يعني إبليس - على قومٍ منَ المُتعبدينَ، وكانوا يبكون والناس حولهم، وهذا قد يقع عليه، فلا يمكن دفعه، فمن قدر على ستره، فأظهره، فقد تَعَرَّضَ للرِّياء" [44]. وعن محمد بن زياد، قال: رأيت أبا أمامة - رضي الله عنه - أتى على رجل في المسجد، وهو ساجد يبكي في سجوده، ويدعو ربه، فقال أبو أمامة: أنت أنت! لو كان هذا في بيتك؟!". وعن أبي حازم، قال: "مَرَّ ابن عمر - رضي الله عنهما - بِرَجُل ساقطٍ منَ العراق، فقال ما شأنه؟ فقالوا: إذا قُرِئ عليه القرآن يصيبه هذا، قال: إنا لنخشى الله - عز وجل - وما نسقط" [45]. عن عمران بن عبدالعزيز، قال: سمعتُ محمد بن سِيرين، وسُئِل عَمَّن يستمع القرآن فيصعق، فقال: "ميعاد ما بيننا وبينهم، أن يجلسوا على حائط، فيُقْرأ عليهم القرآن مِن أوله إلى آخره، فإن سقطوا فهم كما يقولون" [46]. وعنِ الحسن، أنه وَعَظ يومًا، فَتَنَفَّسَ رجل في مجلسه، فقال الحسن: "إن كان لله - تعالى - فقد شَهَّرْت نفسكَ، وإن كان لِغَير الله فقد هلكت"[47]. ولأنَّ الرِّياء كالزُّجاج، يشف عمَّا وراءه، فسرعان ما يُفتضح المُرائِي، ويعامَل بِنَقيض قَصْده، رُوِي عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: "مَن تَزَيَّنَ بِمَا ليس فيه، شانه الله"[48]. وحَكَى الأصمعي أنَّ أعرابيًّا صَلَّى فأطال، وإلى جانبِه قومٌ، فقالوا: ما أحسن صلاتك، فقال: "وأنا مع ذلك صائم"، فقال أعرابي حاضرٌ المجلسَ: صَلَّى فَأَعْجَبَنِي وَصَامَ فَرَابَنِي نَحِّ القُلُوصَ عَنِ المُصَلِّي الصَّائِمِ[49] وقال ابن الجوزي أيضًا: "ومِن أعجب ما رأيتُ فيهم، أنَّ رجلاً كان يُصَلِّي بالناس صلاة الصُّبح يوم الجمعة، ثم يلتفت فيقرأ المعوذتين، ويدعو بِدُعاء الختمة ليعلم الناس أني قد ختمتُ الختمة، وما هذه طريقة السلف، فإنَّ السَّلَف كانوا يسترون عبادتهم، وكان عمل الربيع بن خثيم كله سرًّا، فرُبَّما دخل عليه الداخل وقد نشر المصحف، فيغطيه بِثَوْبه، وكان أحمد بن حنبل يقرأ القرآن كثيرًا، ولا يدري متى يختم"[50]. تنبيه: "البُكاء عند تلاوة القرآن وسماعه ليس هو مقصودًا لِذَاته، ولا هو المُراد في الأصل، إنما المقصود حُضُور القلب وتَدَبُّره لِمَا يَتْلو ويسمع، فيُحْدِث له ذلك إيمانًا ويقينًا، ورغبةً ورَهْبةً، ومَحَبَّةً وشَوْقًا، توجب له هذه الأمور خضوعًا وخشوعًا، وذُلاًّ وانْكِسارًا، يصاحب ذلك رِقَّة وبُكاءً. فهذا البكاء يُمْدَح ويُثْنَى على صاحبِه، لا البكاء المُجَرَّد عنِ السَّبب الذي ذكرتُ، العارِي عنِ الخشوع الذي وصفتُ، ولا البكاء المُتَكَلف، أو الذي يُرَاد به وَجْه الخَلْق. ولقد رأيتُ كثيرًا منَ القُرَّاء، خاصَّة مِن أئمَّة المساجد يَتَصَنَّعُون البكاءَ، ويتكلفونه إلى الغاية، فتجد الواحد منهم يستجلب البُكاء ويستخرجه مِن رأسه قسرًا، ضد ما كان عليه السَّلَف - رحمهم الله - يكظمونه ويردُّونه ما اسْتَطَاعُوا. وينبغِي للقارئ إذا كان مع الناس أن يُخْفِيَ بُكاءَه ما استطاع، وإذا كان وَحْده فَلْيَبْكِ ما شاء؛ لكن لا يُحَدِّث به بعدُ. ولقد رأيتُ منَ الأئمة مَن يَتَجَهَّز للبُكاء قبل الصَّلاة، ورأيتُ مَن يُقَدِّم الإمام إلى الصلاة، ويقول له: ابْكِ يا شيخ! ورأيتُ مَن يبكي أثناء الفاتحة في الرَّكْعة الأولى؛ بل إنَّ بعضهم لَتَخْرُج منه تكبيرة الإحرام مخنوقة منَ البُكاء! ما هكذا كان السَّلَف، كانوا يَبْكونَ في مواضع البكاء، ويبكون غلبة لا تَصَنُّعًا، ويبكون لِمَا تُحْدثه الآيات في قُلوبهم منَ الخُشُوع والرِّقَّة، لا يبكونَ رياءً وسُمْعةً. ولقد رأيتُ مَن لا تكاد تفهم قراءته لِكَثْرة بُكائه. والله لو كان هذا غلبة لَعَذَرْناه إذا أحسن قراءة الفاتحة؛ لكن هو التَّكَلُّف، إنَّه لَيَبْكِي إذا قرأ آيات الوعيد، ويبكي إذا قرأ آيات الرَّجاء، ويبكي إذا قرأ آيات الطَّلاق، ويبكي إذا قرأ آيات الميراث!"[51]. إنَّ هذا يُذَكِّرني بِحِكاية هي كالطُّرْفة، رأيتها في "أخبار الحمقى" لابن الجوزي، قال - رحمه الله -: عن أبي عثمان الجاحظ، قال: أخْبَرَنِي يحيى بن جعفر، قال: كان لي جار مِن أهل فارس، وكان طوال الليل يَبْكي، فأنبهني ذات ليلة بُكاؤه ونَحِيبه، وهو يشهق، ويضرب على رأسِه وصَدْره، ويُرَدد آيةً مِن كتاب الله - تعالى - فلَمَّا رأيت ما نزل به، قلتُ: لأَسْمَعنَّ هذه الآية التي قَتَلَتْ هذا، وأَذْهَبَتْ نَوْمي، فَتَسَمَّعْتُ عليه، فإذا الآية: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: 222]. وصَلَّيْتُ مَرَّة خلف بعضهم فناح طوال الصلاة، وبعض من خلفه يبكون، ويتكلمون بالدُّعاء، والنياحة، والتَّأَوُّهات في الصلاة، وأثناء القراءة، ويُخرِجون المناديل مِن جُيُوبهم، ويمسحون وجوههم، ويَتَحَرَّكون هكذا وهكذا" [52] ا. هـ. قال ابن الجوزي: "إنَّ أول الوَجْد انزعاج في الباطن، فإنْ كَفَّ الإنسان نفسه كي لا يُطَّلَعَ على حاله، يَئِس الشيطانُ منه، فبعد عنه، كما كان أيوب السَّخْتِياني إذا تَحَدَّثَ فَرَقَّ قلبه مسح أنفه، وقال: "ما أشد الزكام!"، وإن أهمل الإنسان نفسه، ولم يبالِ بِظُهور وجده، أو أحب إطلاع الناس على نفسه نَفَخ فيه الشيطان، فانزعج على قدر نفخه"، ثم رَوَى ابن الجوزي بِسَنَده إلى ابن أخي زينب، عن امرأة عبدالله، قالت: جاء عبدالله ذات يوم وعندي عجوز ترقيني منَ الحُمْرة، فأدخلتها تحت السرير، قالتْ: فدخل فجلس إلى جنبي، فرأى في عُنُقي خيطًا، فقال: "ما هذا الخيط؟"، قلتُ: "خيط رقي لي فيه رقية"، فأخذه، وقَطَعه، ثم قال: إن آل عبدالله لأغنياء عنِ الشِّرك، سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إنَّ في الرُّقى، والتَّمائم، والتَّوَلُّة[53] شِرْكًا))، قالتْ: فقلت له: لِمَ تقول هذا، وقد كانت عيني تقذف، وكنت أختلف إلى فلان اليهودي يرقيها، فكان إذا رقاها سكتت؟ قال: إنما ذاك من عمل الشيطان، كان ينخسها بيده، فإن رقيتها كفَّ عنها، إنما يكفيكِ أن تقولِي كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أَذْهِب الباس رب الناس، اشْفِ أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقمًا))[54] ا. هـ[55]. كانتْ قلوب الصَّحابة - رضي الله عنهم - أصفى القلوب، وما كانوا يزيدون عند الوَجْد على البُكاء والخُشُوع. عن حصين بن عبدالرحمن، قال: قلتُ لأسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنها -: كيف كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند قراءة القرآن؟ قالتْ: كانوا كما ذكرهم الله، أو كما وصفهم - عز وجل -: تدمع عيونهم، وتقشعر جُلُودهم، فقلتُ لها: إن هاهنا رجالاً إذا قُرِئ على أحدهم القرآن غشي عليه، فقالتْ: "أعوذ بالله منَ الشَّيطان الرجيم" [56]. وعن أبي عيسى، قال: ذهبتُ إلى عبدالله بن عمر، فقال أبو السوار: يا أبا عبدالرحمن إنَّ قومًا عندنا إذا قُرِئ عليهم القرآن يركض أحدهم مِن خشية الله، قال: كذبتْ، قال: بلى ورب هذه البَنِيَّة[57]، قال: "وَيْحك إن كنت صادقًا، فإنَّ الشيطان ليدخل جوف أحدهم، والله ما هكذا كان أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم" [58]. وعن عبدالكريم بن رشيد، قال: كنتُ في حلقة الحسن، فجعل رجل يبكي، وارْتَفَع صوته، فقال الحسن: "إن الشيطان ليُبْكي هذا الآن"[59]، "فإن قال قائل: فنفرض أنَّ الكلام فيمن اجتهد دفع الوجد، فلم يقدر عليه، وغَلَبَه الأمر، فمِن أين يدخل الشيطان؟ فالجواب: أنَّا لا نُنْكِر ضعف بعض الطباع عنِ الدفع، إلا أنَّ علامة الصادق أنه لا يقدر على أن يدفع، ولا يدري ما يَجْري عليه، فهو مِن جِنْس قوله - عز وجل -: {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف: 143]. فإن قيل: فهل في حق المخلص نقص بِهَذه الحالة الطَّارئة عليه؟ قيل: نعم، مِن وَجْهينِ: أحدهما: أنَّه لو قوي العلمُ أمسك. والثاني: أنه قد خولف به طريق الصحابة والتابعينَ، ويكفي هذا نقصًا" [60]. حكم البكاء في الصَّلاة[61]: يرى الحَنَفيَّة أنَّ البكاء في الصلاة إن كان سببه أَلَمًا، أو مصيبة، فإنه يفسد الصلاة؛ لأنه يعتبر مِن كلام الناس، وإن كان سببه ذِكْر الجنة أوِ النار، فإنه لا يفسدها؛ لأنه يدل على زيادة الخُشُوع، وهو المقصود في الصلاة، فكان في معنى التَّسبيح أوِ الدُّعاء، ويدل على هذا حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((أنه كان يُصَلِّي بالليل، وله أزيز كأزيز المِرْجَل من البكاء))[62]. وعن أبي يوسف أنَّ هذا التَّفصيل فيما إذا كان على أكثر مِن حرفينِ، أو على حرفينِ أصليينِ، أمَّا إذا كان على حرفينِ مِن حروف الزيادة، أو أحدهما من حروف الزيادة والآخر أصلي، فلا تفسد في الوجهين معًا، وحروف الزيادة عشرة يجمعها قولك: أمان وتسهيل[63]. وحاصل مَذْهب المالكيَّة في هذا: أنَّ البُكاء في الصلاة، إمَّا أن يكون بِصَوْت، وإما أن يكون بلا صَوت، فإن كان البكاء بلا صوت فإنَّه لا يبطل الصلاة، سواء أكان بِغَير اختيار، بأن غلبة البكاء تَخَشُّعًا أو لِمُصيبة، أم كان اختياريًّا ما لم يُكْثِرْ ذلك في الاختياري. وأمَّا إذا كان البكاء بِصَوت، فإن كان اختياريًّا فإنه يبطل الصلاة، سواء كان لِمُصيبة أم لِتَخَشُّع، وإن كان بِغَير اختياره، بأن غلبه البكاء تَخَشُّعًا لم يبطل، وإن كثر، وإن غلبه البكاء بغير تَخَشُّع أبطل[64]. هذا؛ وقد ذكر الدسوقي أنَّ البكاء بِصَوت، إن كان لِمُصيبة أو لِوَجع من غير غلبة أو لِخُشوع فهو حينئذٍ كالكلام، يفرق بين عمده وسهوه؛ أي: فالعمد مبطل مطلقًا، قَلَّ أو كثر، والسَّهْو يبطل إن كان كثيرًا، ويسجد له إن قل[65]. وأمَّا عند الشَّافعية: فإنَّ البكاء في الصلاة على الوَجْه الأصح إن ظهر به حرفان، فإنه يبطل الصلاة، لِوُجود ما ينافيها، حتى وإن كان البُكاء مِن خوف الآخرة، وعلى مقابل الأصح: لا يبطل لأنَّه لا يسمى كلامًا في اللُّغة، ولا يفهم منه شيء، فكان أشبه بالصَّوت المُجَرَّد[66]. وأمَّا الحنابِلة: فإنهم يَرَوْن أنَّه إن بان حرفان مِن بكاء، أو تأوه خشية، أو أنين في الصلاة لم تبطل؛ لأنه يجري مجرى الذِّكر، وقيل: إن غلبه، وإلا بطلت، كما لو لم يكن خشية؛ لأنه يقع على الهِجاء، ويدل بنفسه على المعنى كالكلام، قال أحمد في الأنين: إذا كان غالبًا أكرهه؛ أي: من وجع، وإن استدعى البُكاء فيها، كره كالضَّحك، وإلا فلا[67]. وقال شيخ الإسلام ما مختصره: "وما يحصل عند الذِّكر المشروع منَ البكاء، وَوَجَل القَلْب، واقْشِعْرار الجسوم، فمِن أفضل الأحوال التي جاء بها الكتاب، أمَّا الاضطراب الشديد والغَشْي والصَّيَحان[68]، فإن كان صاحبه لم يعلم ما هو عليه لم يُلَم، وسبب قوة الوارد مع ضعف القلب، والقوة والتَّمَكن أفضل، كما هو حال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وأما السُّكون قسوة وجفاء، فهذا مذموم"[69] ا. هـ. وقد سُئِل الإمام المُجَدد عبدالعزيز بن باز - قَدَّسَ الله روحه، ونَوَّرَ ضريحه - عن ظاهرة ارتفاع الأصوات بالبكاء؟ فأجاب - رحمه الله تعالى -: "لقد نصحتُ كثيرًا مَنِ اتَّصل بي بالحَذَر من هذا الشيء، وأنَّه لا ينبغي؛ لأنَّ هذا يؤذي الناس، ويشق عليهم، ويشوش على المصلينَ، وعلى القارئ، فالذي ينبغي للمؤمن أن يحرصَ على أن لا يُسْمَع صوته بالبكاء، وليحذر، فإنَّ الشيطان قد يجره إلى الرِّياء، فينبغي له أن لا يؤذيَ أحدًا بصوتِه، ولا يشوش عليهم، ومعلوم أنَّ بعض الناس ليس ذلك باختياره؛ بل يغلب عليه مِن غير قصد، وهذا مَعْفُو عنه إذا كان بِغَيْر اختياره، فقد ثبتَ عنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه كان إذا قرأ، يكون لِصَدْره أزيز كأزيز المِرْجَل منَ البكاء، وجاء في قصة أبي بكر - رضي الله عنه - أنه كان إذا قرأ لا يَسْمع الناس منَ البكاء، وجاء عن عمر - رضي الله عنه - أنه يُسْمَع نشيجه مِن وراء الصفوف؛ ولكن هذا ليس معناه أنه يتعمد رفع صوته بالبكاء، وإنما شيء يغلب عليه من خشية الله - عز وجل - فإذا غلبه البكاء من غير قصد، فلا حَرَج" ا. هـ. وسُئِل - رحمه الله تعالى - عن حُكْم ترديد الإمام لِبَعْض آيات الرَّحمة أوِ العذاب؟ فأجاب: "لا أعلم في هذا بأسًا لِقَصْد حثِّ الناس على التَّدَبُّر والخُشُوع والاستفادة، فقد رُوِيَ عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه رَدَّدَ قوله - تعالى -: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118]، رَدَّدَها كثيرًا - عليه الصلاة والسلام. فالحاصل أنه إذا كان لِقَصْدٍ صالح، لا لِقَصْد الرياء، فلا مانع من ذلك؛ لكن إذا كان يرى أن ترديده لذلك قد يزعجهم، ويحصل به أصوات مزعجة منَ البكاء، فتَرْك ذلك أَوْلَى؛ حتى لا يحصل تشويش[70]، أمَّا إذا كان ترديد ذلك لا يترتب عليه إلاَّ خشوع وتدبر وإقبال على الصلاة، فهذا كله خير" [71] ا. هـ. المطلب الثاني الدعاء عند خَتْم القرآن الكريم لم يثبتْ في مطلب الدعاء لِخَتم القرآن شيء مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لكنه صَحَّ مِن فعل أنس بن مالك - رضي الله عنه - وتبعه عليه جماعة منَ التابعين.فعن ثابت البناني، وقتادة، وابن عطية، وغيرهم: "أنَّ أنس بن مالك - رضي الله عنه - كان إذا ختم القرآن، جمع أهله وولده، فدعا لهم"[72]. وعنِ الحكم بن عتيبة قال: كان مجاهد، وعبدة بن أبي لبابة، وناس، يعرضون المصاحف، فلمَّا كان اليوم الذي أرادوا أن يختموا أرسلوا إليَّ، وإلى سلمة بن كهيل، فقالوا: إنا كنا نعرض المصاحف، فأردنا أن نختم اليوم، فأحببنا أن تشهدونا، فإنه كان يقال: "إذا ختم القرآن نزلتِ الرحمة عند خاتمته، أو حضرت الرحمة عند خاتمته"[73]. وقال مجاهد بن جبير: "الرَّحمة تنزل عند ختم القرآن"[74]. وقال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "وقد نَصَّ الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - على الدعاء عقيب الختمة، فقال في رواية أبي الحارث: "كان أنس إذا ختم القرآن جمع أهله وولده"، وقال في رواية يوسف بن موسى، وقد سُئل عنِ الرجل يختم القرآن فيجتمع إليه قوم فيدعون، قال: "نعم، رأيت معمرًا يفعله إذا ختم"، وقال في رواية حرب: أستحب إذا ختم الرجل القرآن أن يجمع أهله ويدعو"[75] ا. هـ. وعَلَّق الألباني - رحمه الله تعالى - على قول الإمام ابن الجوزي - رحمه الله تعالى -: "فإني لَمَّا رُزِقْت شرف النِّكاح، وطلب الأولاد، خَتَمْتُ ختمة" [76] إلخ، فقال: "يشير بذلك إلى أن الدعاء بعد ختم القرآن ترجى استجابته، وقد جاء في ذلك آثار كثيرة عنِ السلف الصالح، منها ما رواه ثابت البناني، عن أنس - رضي الله عنه - فذكره؛ أخْرَجه الدارمي بِسَند صحيح" ا. هـ. وقال صالح بن أحمد بن حنبل: "كان أبي يختم من جمعة إلى جمعة، فإذا ختم يدعو ونؤمن"[77]. دعاء ختم القرآن داخل الصلاة ليس منَ السُّنَّة: لم يَرِد دليل عنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحدٍ مِن صحابته - رضي الله عنهم - على مَشْروعية دعاء "ختم القرآن" [78] في الصلاة، من إمام أو منفرد قبل الركوع، أو بعده في "التراويح"، أو غيرها. ونقل المرداوي، أنَّه قيل للإمام أحمد: "يختم في الوتر ويدعو؟" فسَهَّل فيه [79]. وقصارى ما استدل به الإمام أحمد - رحمه الله - على استحبابِ الدعاء، عقب الختم في صلاة التراويح قبل الركوع، أنه مِن عمل التابعينَ، في مكة، والبَصْرة. عن حذيفة - رضي الله عنه - قال: ((كل عبادة لم يَتَعَبَّد بها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا تَعَبَّدوها، فإن الأول لم يدع للآخر مقالاً، فاتقوا الله يا معشر القُرَّاء، وخذوا بِطَريق من كان قبلكم". المطلب الثالث دعاء القُنُوت[80] في الوتر محله: بعد قوله: "سَمِع الله لِمَن حمده، ربنا لك الحمد"، فيجهر بِدُعائه، ويرفع يديه[81]، ويؤمن مَن خلفه.صيغته: "اللهم اهدني فيمَن هديت، وعافني فيمَن عافيت، وتولني فيمَن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، فإنَّكَ تقضي ولا يُقْضَى عليك، وإنه لا يذل مَن واليت، ولا يعز من عاديت، تَبَارَكت ربنا وتعالَيْت، لا منجا منك إلاَّ إليك" [82]. وكان الصحابة - رضي الله عنهم - يزيدون عليه في النِّصف الثاني من رمضان: "اللهُمَّ قاتلِ الكفرة[83] الذين يصدون عن سبيلك، ويكذبون رُسلك، ولا يؤمنون بِوَعدك، وخالف بين كلمتهم، وألق في قلوبهم الرُّعب، وألق عليهم رجزكَ وعذابك إله الحق". وقد يحصل مناسبة عارضة، فيدعو لها الداعي بما يناسبها دون أن يجعله راتبًا لا يحيد عنه بِحَال[84]، ومن ذلك دعاء أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهو: اللهم إنا نستعينك ونستغفرك، ولا نكفرك، ونؤمن بكَ، ونخلع مَن يفجرك[85]، اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد[86]، نرجو رحمتك، ونخشى عذابك، إن عذابك الجد بالكُفَّار ملحق[87]. اللهم عَذِّب الكفرة، الذين يصدون عن سبيلك، ويكذبون رُسلك، ويقاتلون أولياءك، ولا يؤمنون بِوَعدك، وخالِف بين كلمتهم، وأَلْق في قلوبهم الرُّعب، وألق عليهم رجزكَ وعذابك، إله الحق. اللهم اغفر للمؤمنينَ والمؤمنات، والمسلمينَ والمسلمات، وأصلح ذات بَيْنِهم، وأَلِّف بين قلوبهم، واجعل في قلوبهم الإيمان والحكمة، وثبتهم على مِلَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأوزعهم أن يوفوا بعهدكَ الذي عاهدتهم عليه، وانصرهم على عدوك وعدوهم، إله الحق، واجعلنا منهم[88]. وعَنْ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في آخر وِتْره: "اللهُمَّ إني أعوذ بِرِضاك من سخطك، وبِمُعافاتك مِن عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيتَ على نفسك"[89]. - يشرع الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في القنوت؛ لِثُبوت ذلك عن بعض الصحابة - رضي الله عنهم[90]. ففي حديث عروة بن الزبير، ذكر إمامة أُبَي بن كعب الناسَ في صلاة التراويح، في عهد عمر - رضي الله عنه - وفيه: وكانوا يلعنون الكفرة في النصف، يقولون: "اللهم قاتل الكفرة الذين يصدون عن سبيلك، ويكذبون رسلك، ولا يؤمنون بِوَعدك، وخالِف بين كلمتهم، وألق في قلوبهم الرُّعب، وأَلْق عليهم رجزكَ وعذابك، إله الحق"، ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويدعو للمسلمين بما استطاع من خير، ثم يستغفر للمؤمنينَ، قال: وكان يقول إذا فرغ مِن لعنة الكفرة، وصلاته على النبي - صلى الله عليه وسلم - واستغفاره للمؤمنين والمؤمنات ومسألته: "اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، ونرجو رحمتك ربنا، ونخاف عذابك الجد، إن عذابكَ لِمَن عادَيْتَ مُلحق، ثم يكبر، ويهوي ساجدًا"[91]. وعن عبدالله بن الحارث أن أبا حليمة - معاذًا - كان يُصَلي على النَّبي - صلى الله عليه وسلم - في القنوت[92]. مقدار القنوت في الوتر: اختلفتِ الرواية عنِ الإمام أحمد في مقدار القنوت في الوتر على ثلاث روايات: - بِقَدر سورة: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}. - بقدر دعاء عمر - رضي الله عنه. - كيف شاء[93]. لكنهم لا يختلفون أنَّ القانت إذا كان إمامًا، فعليه أن يتجنب التطويل الذي يشق على المأمومينَ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ - رضي الله عنه - لَمَّا شُكي إليه تطويله الصلاة: ((يا معاذ أَفَتَّانٌ أنت؟ اقرأ بكذا، واقرأ بكذا))[94]، وقال أيضًا - صلى الله عليه وسلم -: ((يا أيها الناس إن منكم منفرين، فأيكم أَمَّ الناس فليوجز، فإن من ورائه الكبير والضعيف وذا الحاجة))[95]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((أنت إمام قومك، واقدر القوم بأضعفهم))[96]. قال الإمام النووي - رحمه الله تعالى -: "قال البَغَوي: يكره إطالة القنوت، كما يكره إطالة التَّشَهُّد الأول"[97] ا. هـ. تأكد الالتزام بالمأثور عنِ النبي - صلى الله عليه وسلم -: على الإمام - إذا قنت في صلاة الوتر - أن يَتَقَيَّدَ بالوارد في السُّنَّة، فإن أبى، فَلْيَلْتزم الأدعية الجامعة منَ القرآن والسُّنَّة، ولا يعدل عنها إلى الأدعية المسجوعة المُتَكَلَّفَة، ولا المُخْتَرَعة الرَّكيكة، فإن "خير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم" [98]. قال القاضي عياض - رحمه الله تعالى -: "أَذِن الله في دعائه، وعَلَّم الدعاء في كتابه لخليقته، وعَلَّم النبي - صلى الله عليه وسلم - الدعاء لأمته، واجتمعت في ثلاثة أشياء: العلم بالتوحيد، والعلم باللغة، والنصيحة للأمة، فلا ينبغي لأحد أن يعدلَ عن دعائه - صلى الله عليه وسلم" ا. هـ. وقال الماوردي في "الحاوي الكبير": "والمرويُّ عنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - في القنوت أحب إلينا من غيره، وأيُّ شيء قنت منَ الدعاء المأثور وغيره أجزأه عن قنوته"[99] ا. هـ. فإذا دعا بالمأثور، فلا يجوز له تبديل لفظه ولا تغييره بِزِيادة أو نقصان؛ لما روى البراء بن عازب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عَلَّمه دعاء يقوله عند النوم، وفيه: "اللهم آمنتُ بِكِتابكَ الذي أنزلتَ، وَبِنَبِيِّكَ الذي أرسلتَ" الحديث، وفيه: "فرددتها على النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما بلغت: "اللهم آمنت بكتابكَ الذي أنزلتَ"، قلت: "ورسولكَ" قال: "لا: ونبيك الذي أرسلتَ"؛ متفق عليه. ومثال الزيادة: ما يحصل من قول بعضهم: "اللهم اهدنا بِفَضْلك يا مولانا، فيمَن هديت" إلخ. وقد أحدث البعض زيادات على المأثور، واظبوا عليها، حتى تَوَهَّمَ العوام أنها راتبة منَ السُّنَّة كقولهم: "فلك الحمد على ما قَضَيْت، ولك الشكر على ما أنعمتَ به علينا وأَوْلَيت". وقولهم: "اللهم يا واصل المنقطعينَ أوصلنا إليك"، "اللهم هَبْ لنا عملاً صالحًا يُقَرِّبنا إليك". - على الإمام أن يتجنبَ الأدعية المُحْدَثة التي لا أصل لها، والتي يَتَصَيَّدها البعض تَصَيُّدًا من كتب الصوفية وغيرهم، ثم يلتزمها، ويهجر الأدعية النَّبَويَّة. قال القاضي عياض - رحمه الله -: "وقدِ احتال الشيطان للناس من هذا المقام، فَقَيَّضَ لهم قوم سوء، يخترعون لهم أدعية يشتغلون بها عنِ الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأشد ما في الحال أنهم ينسبونها إلى الأنبياء والصالحين، فيقولون: "دعاء نوح، دعاء يونس، دعاء أبي بكر الصديق"، فاتقوا الله في أنفسكم، لا تشتغلوا منَ الحديث إلا بالصحيح" ا. هـ. وقال شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله تعالى -: "لا ريبَ أن الأذكار والدعوات من أفضل العبادات والعبادات، مبناها على التوقيف والاتباع، لا على الهوى والابتداع، فالأدعية والأذكار النَّبويَّة هي أفضل ما يَتَحَرَّاهُ المُتَحَرِّي منَ الذكر والدعاء، وسالكها على سبيل أمان وسلامة، والفوائد التي تحصل بها لا يعبر عنها لسان، ولا يحيط بها إنسان، وليس لأحد أن يَسُنَّ للناس نوعًا من الأذكار والأدعية غير المسنون، ويجعلها عبادة راتبة، يواظِب الناس عليها، كما يواظبون على الصَّلَوات الخمس؛ بل هذا ابتداع دين لم يأذن الله به" ا. هـ. وقال أيضًا: "وأما اتِّخاذ وِرْد غير شرعي، واستنان ذِكْر غير شرعي، فهذا مما يُنهى عنه، ومع هذا، ففي الأدعية الشرعية، والأذكار الشرعية غاية المطالب الصحيحة، ونهاية المقاصد العلية، ولا يعدل عنها إلى غيرها منَ الأذكار المحدثة المبتدعة إلاَّ جاهل، أو مُفَرط، أو مُتَعَدٍّ"[100] ا. هـ. ومما يستنكر على الأئمة في هذا الزمان: انتقاء الأدعية المليئة بالتَّشقيق في العبارات، والاستطراد في ذكر أمور تفصيليَّة من أحوال الموت والبعث والنشور؛ لِتَحريك عواطف المأمومينَ، وإزعاج جوارحهم، وانفجارهم في البكاء والشهيق، والصراخ، وربما بطلت صلاة بعضهم، وهو لا يشعر، فعلى الإمام أن يجتهدَ في تصحيح نيته، وأن يرسل الدعاء بسجيته، وصوته المعتاد[101]، بِضَراعة وابتهال، مُتَجَنِّبًا التَّقَعُّر، والتَّكَلُّف، والتلحين، والتَّطريب، والتَّمطيط في أداء الدعاء، قال الكمال بن الهمام الحنفي - رحمه الله تعالى -: "ما تعارفه الناس في هذه الأزمان، منَ التمطيط، والمُبَالغة في الصياح، والاشتغال بِتَحْريرات النغم - يعني في الدعاء - إظهارًا للصناعة النَّغَميَّة، لا إقامة للعبوديَّة، فإنه لا يقتضي الإجابة بل هو من مقتضيات الرد" [102] ا. هـ. قال الله - سبحانه -: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55]، قال عبدالملك بن جريح في تفسيرها، "منَ الاعتداء: رفع الصوت، والنِّداء في الدعاء، والصياح، وكانوا يؤمرون بالتَّضَرُّع والاستكانة" [103]. وعن عبدالله بن مغفل - رضي الله عنه - أنه سمع ابنه يقول: "اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها"، فقال: أي بني، سل الله الجنة، وتَعَوَّذ به من النار، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء"[104]. وعن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستحب الجوامع منَ الدعاء، ويدع ما سوى ذلك"[105]. وقال ابن سعد بن أبي وقاص: "سمعني أبي، وأنا أقول: اللهم إني أسألك الجنة، ونعيمها، وبهجتها، وكذا، وكذا، وأعوذ بكَ من النار، وسلاسلها، وأغلالها، وكذا وكذا، فقال: يا بني إني سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((سيكون قوم يعتدون في الدعاء))، فإياك أن تكون منهم، إن أعطيت الجنة أعطيتها وما فيها منَ الخير، وإن أُعِذْتَ منَ النَّار أعذت منها وما فيها منَ الشر" [106]. ومثل هذا الاعتداء تكثير الكلام الذي لا حاجة إليه، مثل ما يزيده البعض على الحديث الضعيف: "اللهم لا تدع لنا ذنبا إلى غفرته" [107] إلخ، من قوله: "ولا مريضًا إلا شفيته، ولا دَيْنًا إلا قضيته، ولا غائبًا إلا رددته، ولا طالبًا إلا نجحته، ولا ضالاًّ إلا هديته، ولا مظلومًا إلا نصرته، ولا مسجونًا إلا أطلقته"، وهكذا على هذا الرَّوِي بصورة متعنتة تورث الفتور والملل، ويقوم مقامها سؤال العفو والعافية، وبينما الإمام في حال منَ الانبساط بهذا الإيقاع المتكلف، ترى المأمومين في غاية التَّحَرُّج والانزعاج، وهذا شؤم مخالفة الهدي النبوي. - على الإمام أن يبادرَ بالدُّعاء مباشرة بعد قوله "ربنا لك الحمد"، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رفع رأسه منَ الركعة الآخرة، يقول: ((اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة[108])) إلخ. وعنه - رضي الله عنه - قال "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول حين يفرغ من صلاة الفجر منَ القراءة ويُكَبِّر، ويرفع رأسه: ((سَمِع الله لِمَن حمده، ربنا ولك الحمد))، ثم يقول وهو قائم: ((اللهم أنج الوليد بن الوليد)). وإذا تأملنا صيغة القنوت التي عَلَّمها النبي - صلى الله عليه وسلم - سبطه الحسن - رضي الله عنه - وجدناها تبدأ بقوله: ((اللهم اهدنا...))، وفي قنوت عمر: ((اللهم إنا نستعينك...))، إلخ. فما يفعله بعض الأئمة منَ البداءة ببعض المحامد الطويلة، يستفتح بها دعاء القنوت في الوتر، ويتمادى في ذكرها، بأسلوب يخرج به عنِ الأسلوب الإنشائي الطلبي المناسب، لمقام الدعاء إلى الأسلوب الخيري المناسب لمقام الوعظ والترغيب والترهيب، الأمر الذي جعل البعض يخشى بطلان الصلاة؛ لاحتمال أن يكون له حكم الكلام المتعمد الذي لا يشرع في الصلاة. ومنَ المعلوم أن الصلاة كلها حمد وثناء على الله - تعالى - ودعاء القنوت يأتي بعد الرَّفع منَ الركوع الذي فيه تسبيح، وتعظيم، وحمد، وتمجيد لله - سبحانه وتعالى - وبعد قول المصلي "ربنا لك الحمد"، فلا دليل على زيادة المحامد فوق ما شرع في هذا الموضع، والله - تعالى - أعلم. فإن أَبَى الإمام - مع كل ما تَقَدَّمَ - إلا الدعاء بِغَير المأثور تمسُّكًا بالإباحة، فلا بدَّ أن يراعيَ الضوابط التالية في الدعاء: "1- أن يَتَخَيَّرَ منَ الألفاظ أحسنها، وأنبلها، وأجملها للمعاني، وأبينها؛ لأنه مقام مناجاة العبد لربه ومعبوده - سبحانه. 2 - أن تكون الألفاظ على وفق المعنى العربي، ومقتضى العلم الإعرابي. 3 - أن يكون خاليًا من أي محذور شرعًا: لفظًا، أو معنى. 4 - أن يكون في باب الذكر والدعاء المطلق، لا المقيد بزمانٍ، أو حال، أو مكان. 5 - أن لا يتخذه سنَّة راتبة يواظِب عليها"[109]. وقال الشيخ بكر أبو زيد - رحمه الله تعالى -: "إن زاد على الوارد المذكور[110]، فعليه مراعاة خمسة أمور: 1 - أن تكون الزيادة من جنس المدعو به في دعاء القنوت المذكور[111]. 2 - وأن تكون الزيادة منَ الأدعية العامة في القرآن والسُّنَّة. 3 - وأن يكون محلها بعد القنوت الوارد في حديث الحسن، وقيل الوارد في حديث علي[112] - رضي الله عنه. 4 - وأن لا يتخذ الزيادة فيه شعارًا يُدَاوم عليه. 5 - وأن لا يطيل إطالة تشق على المأمومين" [113]. - ومن الاعتداء في الدُّعاء تَكَلُّف السَّجع: وقد وصى ابن عباس - رضي الله عنهما - مولاه عِكْرِمة - رحمه الله - فقال: "فانظر السجع في الدعاء فاجْتَنبه، فإني عهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لا يفعلون إلا ذلك الاجتناب" [114]. وكان عروة بن الزبير إذا عرض عليه دعاء فيه سجع منسوبًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، قال: "كذبوا، لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه سَجَّاعينَ" [115]. - على الداعي أن يَتَجَنَّبَ صيغ الأدعية التي تُشعر بالإدلال على الله - تعالى - بعمله، واعتداده بالعبادة، كقول بعضهم في أول ليلة من رمضان: "اللهُمَّ تقبل صيامنا، وقيامنا وصلاتنا، وركوعنا، وسجودنا" إلخ، أو في آخر رمضان، دون أن يقرنه بالإقرار بالتَّقصير. - ومن أخطاء المأمومين: زيادة ألفاظ لم يرد بها دليل مثل قولهم خلف الإمام في القنوت: "يا ألله"، "حق"، "نشهد"، وإنما يشرع للمأموم التأمين فقط، على دعاء السؤال لا دعاء الثناء. - ومنَ المخالفات الشائعة للسُّنَّة: المبالغة في الجهر بالتأمين والصياح به بصَرَخات حماسية تشبه الهتافات، عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أنهم كانوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فجعل الناس يجهرون بالتكبير، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أيُّها الناس، أربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا، إنكم تدعون سميعًا قريبًا، وهو معكم)) [116]. وتأمين المأمومين في الصلاة منَ الذِّكر الذي يسن الجهر به، بقدر يحصل به المقصود، قال العلماء: حد الإسرار:"التلفظ بتحريك اللسان بالحروف من مخارجها، بصوت أقله أن يُسْمِعَ نفسه". والجهر: "هو التَّلَفُّظ بتحريك اللسان بالحروف من مخارجها، بصوت يَسْمعه غيره ممَّن يليه، ولا حد لأعلاه[117]". وقال الآلوسي المُفَسِّر - رحمه الله تعالى -: "وترى كثيرًا من أهل زمانك يتعمدون الصراخ في الدعاء، خصوصًا في الجوامع، حتى يعظم اللغط ويشتد، وتستك المسامع وتستد، ولا يدرون أنهم جمعوا بدعتين: رفع الصوت في الدعاء، وكون ذلك في المسجد" [118]. - لا يشرع مسح الوجه باليدين بعد رفعهما لدعاء القنوت في الوتر، لِما في استعماله في الصلاة من إدخال عمل عليها لم يثبتْ به أَثَر. قال العز بن عبدالسلام - رحمه الله تعالى -: "ولا يمسح وجهه بيديه عقيب الدعاء إلاَّ جاهل" [119]. المطلب الرابع الفتح على الإمام ذهب جمهور الفقهاء إلى أن فتح المؤتم على إمامه إذا أُرْتِج[120] عليه في القراءة وهو في الصلاة، ورَدّه إذا غلط إلى الصواب؛ مشروع إجمالاً، وبه قال جَمْعٌ منَ الصحابة والتابعين، استدلوا بما رواه أبو داود بِسَنده من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة فقرأ فيها، فلُبس عليه، فلمَّا انصرفَ قال لأُبَي - رضي الله عنه -: ((أصليتَ معنا؟))، قال: نعم، قال: ((فما منعك؟))[121].وما رواه المِسْور بن يزيد - رضي الله عنه - قال: "شهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الصلاة، فترك شيئًا لم يقرأه، فقال له رجل: يا رسول الله، تركت آية كذا وكذا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((هلا أذكرتنيها؟)) [122]. وكرهه ابن مسعود - رضي الله عنه - وشريح، والشَّعبي، والثوري [123]. ما يُطْلب فيمَن يفتح على الإمام 1 - الذكورة؛ أما المرأة فلا يجوز لها ذلك إذا صلت خلف الرجال، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء)) [124]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا نابكم أمر فليسبح الرجال، وليُصَفح النساء)) [125]، فهي مأمورة بِخَفض صوتها في الصلاة مطلقًا لما يخشى من الافتتان [126]. 2 - الإخلاص؛ بأن يبتغي بالفتح على الإمام وجه الله - تعالى - مخلصًا له الدِّين، وأن يحرسَ نيته عنِ الرياء، ويصونها عنِ السُّمعة، ولا يكن هَمه أن يقال: "هو قارئ"، فيحبط عمله. 3 - أن يكون قريبا من الإمام، واضح الصوت، مسموعَه، أما من كان بعيدًا، ويعلم أن الإمام لا يسمع صوته؛ فلا. 4 - أن يكون شخصًا واحدًا: أما ما يحصل من بعض المتعجلين الذين يتسابقون إلى الرد بأصواتهم عالية مختلطة، فيحصل التَّشويش من كل جهات المصلين، ولا يستوعب الإمام ما ينطقون، فهذا لا يليق بِحُرمة الصلاة، ولا بآداب المسجد، فليحرص كل مأموم على أن يتأنَّى، وليودّ أن غيره كفاه. 5 - إذا كان الإمام قارئًا مجيدًا متقنًا، على دراية بالقراءات، فليس للمأموم أن يُصَحح له إلا إذا علم يقينًا أنَّ الحرف الذي يرى أن الإمام أخطأ فيه، ليس حرفًا متواترًا، أو علم أن الإمام لا يعرف إلا قراءة واحدة منَ القراءات المتواترة، وأخطأ فيها. 6 - أن يكون حافظًا، جيد الحفظ لما يفتح فيه على الإمام، خبيرًا بالمتشابهات اللفظية، متيقنًا من خطأ الإمام، وإلاَّ فإن بعضهم ينازع الإمام ويعوقه، ويفسد عليه قراءته الصحيحة، ويكون المأموم هو المُخطئ. 7 - أن لا يبادر إلى الفتح على الإمام إذا سكت، إلا إذا تأكد أن سكوته بسبب النسيان، فقد يسكت الإمام عند آية رحمة، أو آية عذاب، أو أمر بتسبيح، أو استغفار، أو تعوُّذ، ونحو ذلك، وقد تأخذه سعلة، أو يسكت ليبلع ريقه، أو ليسترد نَفَسه، ففي كل هذه الحالات ينبغي إمهاله، وعدم تعنيته. - وليتجنب المأموم تلك البدعة المحدثة التي شاعت مؤخرًا، وهي إمساك بعض المأمومين المصاحف أثناء صلاة القيام؛ كي يُصَحِّحوا للإمام، أو يتابعوا قراءته، والصَّلاة ليست موضع تعليم أو تعلُّم، كما أنَّ الحركات التي يأتي بها دون مسوِّغ من السُّنَّة ليست من عمل الصلاة، بل تنافي قوله - تعالى -: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ في الصلاة لشغلاً))[127]. المطلب الخامس مكان الاعتكاف [128] قال القرطبي - رحمه الله تعالى -: "أجمع العلماء على أنَّ الاعتكاف لا يكون إلاَّ في المسجد؛ لقول الله - تعالى -: {فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187].وقال الموفق ابن قدامة - رحمه الله تعالى -: "لا يصح الاعتكاف في غير مسجد إذا كان المعتكِف رجلاً، لا نعلم في هذا بين أهل العلم خلافًا، والأصل في ذلك قول الله - تعالى -: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}[129] [البقرة: 187]. فخصها بذلك، فلو صح الاعتكاف في غيرها لم يختص تحريم المباشرة فيها، فإن المباشرة مُحَرَّمة في الاعتكاف مطلقًا" [130] ا. هـ. - ولا يصح الاعتكاف إلا في مسجد جماعة، قال ابن قدامة - رحمه الله -: "وإنما اشترط ذلك - أي كون المسجد مسجد جماعة [131] - لأن الجماعة واجبة، واعتكاف الرجل في مسجد لا تقام فيه الجماعة يفضي إلى أحد أمرين: - إما ترك الجماعة الواجبة. - وإما خروجه إليها، فيتكرر ذلك كثيرًا مع إمكان التَّحَرُّز منه، وذلك منافٍ للاعتكاف، إذ هو لزوم المعتكف والإقامة على طاعة الله فيه" [132] ا. هـ. ويلزمه الخروج إلى الجمعة، ولا يبطل اعتكافه؛ لأنه خروج بِعُذر مشروع، ولا يتكرر إلا مرة في الأسبوع، قال الكاساني - رحمه الله -: "وكذا في الخروج في جمعة ضرورة؛ لأنها فرض عين، ولا يمكن إقامتها في كل مسجد، فيحتاج إلى الخروج إليها كما يحتاج إلى الخروج لحاجة الإنسان، فلم يكن الخروج إليها مبطلاً لاعتكافه" [133]. وذهب حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - إلى أن الاعتكاف لا يصح إلاَّ في المساجد الثلاثة، فقد قال الطحاوي - رحمه الله -: حدثنا محمد بن سنان [134] الشيرازي، قال: ثنا هشام بن عمار [135]، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن جامع بن أبي راشد، عن أبي وائل قال: قال حذيفة لعبدالله [136]: الناس عكوف بين دارك، ودار أبي موسى، لا تُغَيِّر؟ وقد علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة[137]: المسجد الحرام، ومسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ومسجد بيت المقدس))، قال عبدلله: لعلك نسيت وحفظوا، أو أخطأت وأصابوا" [138]. الجواب عن حديث حذيفة - رضي الله عنه -: 1 - أنه اختلف في رفعه ووقفه، والأقرب وقفه، فقد رواه ثلاثة منَ الحُفَّاظ [139] عن ابن عيينة به، موقوفًا من كلام حذيفة - رضي الله عنه. 2 - أن ابن مسعود - رضي الله عنه - لم يقبل رواية حذيفة؛ بل ردها، وهذا لا يمكن أن يصدر منه لو علم رفع الحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فدل على أن حذيفة - رضي الله عنه - قال ذلك اجتهادًا، تَفَرَّدَ به [140]. 3 - يحتمل أن حُذيفة - رضي الله عنه - أخطأ في رواية الحديث، فاشتبه عليه لفظ: ((لا تشد الرحال...)) الحديث [141]، ومن ثَمَّ قال له ابن مسعود - رضي الله عنه -: "لعلك نسيت وحفظوا، أو أخطأت فأصابوا". وبفرض صحة حديث حذيفة - رضي الله عنه - يجاب عنه: أولاً: بأنه منسوخ، ولذا قال الإمام أبو جعفر الطحاوي - رحمه الله -: فتأملنا هذا الحديث فوجدنا فيه إخبار حذيفة لابن مسعود، أنه قد علم ما ذكره له عنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - وترك ابن مسعود إنكار ذلك، وجوابه إياه بما أجابه في ذلك من قوله لهم: "حفظوا"، أي: قد نسخ ما قد ذكرته من ذلك، و"أصابوا" فيما قد فعلوا، وكان ظاهر القرآن على ذلك، وهو قول الله - عز وجل -: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]، فعم المساجد كلها بذلك، وكان المسلمون عليه في مساجد بلدانهم" [142] ا. هـ. ثانيًا: أنه محمول على بيان الأفضليَّة، قال الكاساني - رحمه الله -: "فأفضل الاعتكاف أن يكون في المسجد الحرام ثم مسجد المدينة، ثم في المسجد الأقصى، ثم في المساجد العظام التي كثر أهلها" [143] ا. هـ. والحاصل: أن مذهب حذيفة - رضي الله عنه - غريب مهجور[144]، مخالف لمذهب القافلة الكبرى من أئمة العلم في كل عصر ومصر. قال البخاري في "صحيحه" باب الاعتكاف في العشر الأواخر، والاعتكاف في المساجد كلها؛ لقوله – تعالى -: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] الآية. قال الحافظ في "الفتح": "قوله: "والاعتكاف في المساجد كلها"، أي: مشروطية المسجد له، من غير تخصيص بمسجد دون مسجد [145] ا. هـ. وقال النووي - رحمه الله -: "... وإذا ثبت جوازه في المساجد، صح في كل مسجد، ولا يقبل تخصيص مَن خصه إلا بدليل، ولم يصح في التخصيص شيء صريح" [146]. تنبيهان: الأول: الحكمة منَ الاعتكاف لَمُّ شَعْث القلب بإقباله بالكلية على الله – تعالى - ومِن ثم، شُرع فيه ما يذهب فضول الطعام والشراب، ويستفرغ أخلاط الشهوات التي تعيق القلب عن سيره إلى الله - تعالى - وذلك إنما يتم مع الصوم؛ بل اصطفى له النبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل أيام الصوم، وهو العشر الأخير من رمضان، وشرع فيه حبس اللسان عن كل ما لا ينفع في الآخرة من فضول الكلام، وشرع فيه قيام الليل اغتنامًا لشرف الوقت، واجتنابًا لفضول النوم، وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا اعتكف، دخل قبته وحده، وكان لا يدخل بيته إلاَّ لحاجة الإنسان، كل هذا: "تحصيلاً لمقصود الاعتكاف وروحه، عكس ما يفعله الجُهَّال من اتِّخاذ المعتكَف موضع عِشرة، ومجلبة للزائرين، وأخذهم بأطراف الأحاديث بينهم، فهذا لون، والاعتكاف النبوي لون، والله الموفق" [147]. الثاني: الاعتكاف سنة في كل وقت، وآكده في رمضان، وآكده في العشر الأخير منه، فإذا تعارض مع فرض؛ كَبِرِّ الوالدين أو طاعة الزوج قدم الفرض، كما يفعل في نظائره عند التعارض، والله أعلم. وهذا آخر ما قصدت إلى جمعه منَ الفوائد والتنبيهات، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعينَ، والحمد لله رب العالمين. المصدر: mhiptv.org/forums u,],h Ygn odv hgi]d
__________________
|
|
|
المواضيع المتشابهه | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
مرتضى منصور بعد ثلاثية الحدود: أقول للحاقدين والشامتين عودوا لجحوركم | مصطفى صدقى | قسم البطولات المصرية الاهلي والزمالك ... الخ | 0 | 08-12-2017 11:22 AM |
فرصة عامة لراغبى السفر الى جورجيا سياحة شهر.. تأشيرتك عندنا مضمونة فى اسرع وقت | كندا | القسم العام |
0 | 03-04-2017 01:26 PM |
فرصة عامة لراغبى السفر الى جورجيا سياحة شهر.. تأشيرتك عندنا مضمونة فى اسرع وقت | كندا | القسم العام |
0 | 02-04-2017 06:21 PM |
محمد حلمى للاعبى الزمالك: انسوا السوبر عندنا دورى وكأس | مصطفى صدقى | قسم البطولات المصرية الاهلي والزمالك ... الخ | 0 | 13-02-2017 09:42 PM |